ميراي شحادة: صدى مي زيادة في وجدانٍ معاصر - شبكة جدة الإخبارية

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
ميراي شحادة: صدى مي زيادة في وجدانٍ معاصر - شبكة جدة الإخبارية, اليوم الثلاثاء 24 يونيو 2025 08:30 مساءً

فاروق غانم خداج – كاتب لبناني وباحث في الأدب والفكر الإنساني

في زمنٍ تغشاه الفوضى، وتضيع فيه البوصلة بين ركام العبارات، تطلّ ميراي شحادة كنسمةٍ صافية، لا تشبه أحدًا، لكنها تُشبه شيئًا عزيزًا فقدناه؛ تُشبه تلك الطمأنينة التي كانت تملأ أرواحنا حين نقرأ لمي زيادة، وحين كنّا نظنّ أن الكلمة لا تزال تملك القدرة على الإنقاذ.

ميراي، المهندسة التي هاجرت من لغة الآلات إلى موسيقى الحروف، لم تهرب من الرياضيات، بل ارتقت منها إلى معادلاتٍ أكثر تعقيدًا: معادلات الروح، والحنين، والهوية. في بيتٍ تنفّس الشعر من أوّله، حيث والدها الشاعر عبد الله شحادة، كان الشعر لا يُدرّس، بل يُعاش، وكانت الكلمة تنمو في التربة، لا في الحبر.

لكن ميراي لم تكتفِ بأن تكون ابنة شاعر. لم تتكئ على الإرث، بل أضافت إليه نكهتها الخاصة، كما تُضاف قطرة من العطر النادر إلى ماء الورد. صنعت من ذاتها تجربةً مكتملة، تقف فيها الهندسة بجوار القصيدة، فيتناغم العقل والوجدان دون صراع؛ كلاهما يعمل في صمت، ويبني دون ادّعاء.

عندما نشرت ديوانها الأول «يوم قررت أن أطير»، لم تكن تحلّق هربًا من شيء، بل نحو شيء: الحرية. كلّ نصّ فيه كان أشبه بجناحٍ، وكلّ جناحٍ نُسج من ألمٍ راقٍ، ومن ذاكرةٍ لا تشكو، بل تُصغي. أمّا ديوانها الثاني «بوهيمية»، فكان رحلة داخلية، مقسّمة إلى نوافذ ثلاث: "على أوتار الحنين"، "خواطر من دمي"، و"شذرات من الماضي"... وكأنها تقول لنا: لا تبحثوا عن القصيدة خارج القلب.

أسّست دار عبد الله شحادة للنشر، لا كعملٍ تجاري، بل كفعل وفاء. بيتٌ للكلمة الصادقة، في زمنٍ هجرت فيه الكلمات بيوتها. هي لا تؤمن بأنّ الكتاب سلعة، بل أثر. ولهذا كانت تختار النشر بحدس الشاعرة، لا بحسابات السوق.

ولم تكن عضويتها في اتحاد الكتّاب اللبنانيين مجرّد انتماء إلى مؤسسة، بل صرخة في وجه المظاهر الخاوية. رفعت الصوت هناك، ليس طلبًا للنجومية، بل كي لا تنطفئ شمعة الإبداع في قاعةٍ أرهقتها السياسة والشكليات.

وما يدهشك في ميراي، ليس ما تكتبه فحسب، بل ذاك الحضور الرؤوف الذي تمنحه لأهل الفكر والأدب، كما لو كانت راعيةً لهم، تمشي بينهم لا لتتقدّم، بل لتشدّ على أيديهم. تؤمن أنّ الكلمة لا تُزهر في العزلة، وأنّ الكاتب مهما بلغ من البراعة، يحتاج وجهًا صادقًا يقول له: "أنا أراك." تراها هناك، في الصفوف الأولى، لا ترفع صوتها ولا تلوّح، بل تترك أثرها كما يترك النسيم ظلاله على القلوب المتعبة.

وفيها من الإنسانية ما يذيب المسافة بين الشعور والتعبير، حتى لا تكاد تُفرّق: أهي تكتب أدبًا مغموسًا بإنسانها؟ أم أنها تسير في الحياة كقصيدةٍ تمشي على قدمين؟ بهذا الامتزاج البديع، أصبحت إنسانيّتها والأدب وجهًا واحدًا لروحٍ واحدة. حتى ابنتي، وهي بعدُ على مقاعد المرحلة الثانوية، حين قرأت لها ببراءة المراهقين، أمسكت قلمها الشفاف، وكتبت دون تكلّف: "أحبّ هذه السيّدة... إنّها تُشبهنا، ولكنّها تُضيء." وكم في هذا القول العفوي من حكمةٍ، يعجز عنها أدقّ النقّاد.

وفي كلّ محفل، تُطلّ ميراي كأنها تسأل: هل ما زال في هذه البلاد من يُنصت؟
وفي "محاوراتها القمرية"، لا تُحاضر، بل تفتح نافذةً على الضوء، فتجلس القصيدة على عتبة الليل وتنتظر القارئ الذي لا يريد إثارةً، بل عمقًا. في تلك اللقاءات، لا تلمع الكاميرات بل تلمع العيون، لأنّ المعنى يحضر دون بهرج.

تشبه ميراي مي زيادة، لا في الشكل، بل في المعنى. الاثنتان تدركان أنّ الكلمة ليست ثوبًا تُعرَض به، بل جرحٌ يُلَمّ، وهمٌّ يُشارك. مي أوصلت فكرها من بيروت إلى القاهرة، وميراي تُطلّ من الشمال اللبناني على مشهدٍ تعب من الفوضى، وتمنحه نفسًا نقيًّا من الحبر والعقل.

ولعلّ أعذب ما فيها، أنّها لا تفرض حضورها. تأتي كأنها كانت هنا دائمًا. لا تقتحم، بل تُصادق. تُشبه النور حين يتسرّب إلى غرفةٍ مظلمةٍ دون أن يُوقظ أحدًا.

وفي ختام هذا التأمل، لا نحتاج أن نقول إنّ ميراي شحادة "وريثة" مي زيادة. بل نقول شيئًا أكثر صدقًا: إنّها واحدة من تلك الأرواح النادرة، التي كلّما حاول الزمان أن يُغلق عليها الباب، فتحته الكلمة من الداخل.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق