زيارةٌ من السماء إلى لبنان - شبكة جدة الإخبارية

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
زيارةٌ من السماء إلى لبنان - شبكة جدة الإخبارية, اليوم الاثنين 13 أكتوبر 2025 11:35 صباحاً

ريمي الحويك

 

 

من غيماتِ روما البِكرِ، ستهبطُ الهمسةُ البيضاءُ لتلامس جبينَ لبنان، سيطأَ البابا لاوون الرابع عشر أرضَنا العطشى إلى مسحةِ سلامٍ وأمانٍ، فيغدو هذا الترابُ الصغيرُ الذي أنهكته خيولُ الحروبِ، مذبحاً في هيكلٍ يتهيأُ لأحد الشعانين.
هوالبابا الثالت الذي يزورُ لبنان في تاريخهِ، لكنّها الأولى في زمن كسادُ الخيرِ ووباءُ اليأسِ، زمن صار فيه الخبزُ نادراً والملحُ فاسداً.
كأنّ لبنان، المرفوع على صليبٍ من خيبة وتعب، ينتظرُ راعياً أبيض يمرُّ عليه ليقول له كما قال المسيح للمخلّع: "قُم احمل فراشك وامشِ". كأنّ الزيارة وعدٌ سمويٌّ بأنّ هذه الأرض الجافة، ما زالت تحتَ قُبلةِ الله، لم تُرفع يدُ العناية عنها قَطّ.
في حنايا القلبِ، يصرخُ حنينٌ بلونِ الياسمين للقديس يوحنا بولس الثاني، ذاك الذي نَسَجَ للبنان رسالةً لا وطناً، حين قال: "لبنان أكثر من وطن، إنّه رسالة". وقال فيه بنديكتوس: "هذا البلد قلب العالم وعقله". وكم من مرّة عبّر البابا فرنسيس عن شوقه لزيارةِ لبنان، بلدِ الأرزِ والقداسة، لكنّ الجسدَ الذي أرهقَه المرضُ لم يُمهله ليحمل خطاه إلى هذه الأرض. ومع ذلك، لم يُطفئ العجزُ نارَ المحبّة في قلبِه، فخصَّ لبنان بيوم عالميّ للصلاة، وجعل العالمَ كلَّه يرفع الدعاء لأجله. أما قبلةُ الأبِ الحانيةُ على العلمِ اللبنانيّ، فكانت اعترافاً صامتاً بقداسةِ هذا التراب، وإعلانَ حبٍّ من السماء إلى وطنٍ لم يغِب يوماً عن ذاكرته.

images_123131.jpg

لكن الحكاية بدأت قبل ذلك بكثير، يومَ حطَّ البابا بولس السادس رحاله في مطار بيروت عام 1964، في زيارةٍ خاطفة لم تدم سوى ساعةٍ، كانت بمثابة اللمسة الأولى من الكرسي الرسولي على أرض الأرز، تمهيداً لعهودٍ من المحبّة والصلاة.
واليوم، حين يأتي البابا لاوون، كأنّ تلك الرسائل تعودُ لتُتْلى من جديد.على ألسنةِ المؤمنين، ومسمعِ الطامعين الذين يسرقون فجره.
يأتي البابا لاوون، لا حاكِماً ولا قاضياً، بل شاهداً على وجعٍ يشبه وجعَ المسيح على الجلجلة، يأتي ليقول إنّ من يبكي على هذه الأرضِ لن يبقى بلا عزاءٍ ولن يموتَ غرقاً في الدمعِ، بل سيحصدُ يوماً سنابلَ قمحٍ من نور.
لبنان اليوم، حقولٌ هجرتها سنابلُها، تنتظرُ يداً تعرف كيف تزرع إيماناً، وقلباً يؤمن بأنّ القيامة ليست حلماً، بل وعدٌ. فلتُفتح له الدروبُ كالأوردةِ، ولتُرفع له الصلواتُ كشموعٍ تُشعلُ العتمةَ، فالنور الحقيقي يولدُ من لهفةِ القلوب، لا من الأسلاكِ الصدئة.
سيزورُ البابا لبنان، لا ليخطَّ صفحةً في التاريخ، بل ليقرأَ الصفحةَ التي أحرقتها الخطيئة! ستُقرع الأجراسُ على قبابِ الكنائسِ لا احتفالاً بعيدٍ فقط، بل إيقاظاً للإيمانِ المدفونِ تحتَ الرُكام.
سيزورنا البابا فيُحجَب عنّا لثلاثة أيام ثِقلَ السياسة وثرثرةَ الساسة، سترتاح الروحُ من جدالٍ كاد أن يبتلع الأرضَ والوعدَ، سيُزرع الصليبُ علامةَ رجاءٍ في أرضٍ أنهكتها عصيانُ أبنائها، وسينبتُ بين الحجارةِ قمحاً جديداً، كأنّ القيامة مرّت من هنا ولم نَلْحظها.
سيزورنا البابا، ويفتح فينا الأبواب التي أوصدتها الخيبات، سيهمس في قلوبنا الخائفة كما يهمسُ الربّ في قبرِ لازاروس: "قُم"، فينهضُ فينا الأملُ من بين الرماد.
سيزورنا البابا، ويروي ظمأنا بعد جفافٍ طال، وسنرفعُ وجوهنا إلى صوته كما ترفع الأرضُ وجهَها إلى المطر، نستقبلُ كلماته كما تستقبل الحقولُ أولى قطراتِ الخلاص.
سيزورنا البابا، وسيقرأ لبنان في وجوه أمهاته، لا في خرائطه، في دمعة الجدّات أمام صور القدّيسين، وفي شموعٍ تُضيء النوافذَ كأنها رسائل إلى السماء، تستدعي الغائبين وتستعجل القيامة.
سيزورنا البابا، ويُبارك البحر والجبال والرياح، ويهمس للهواء: "كُن طيّبا ًمع هذا الشعب، فقد تعب من العواصف".
سيزورنا البابا، وسيمرّ بين الأطلال كما مرّ المسيح بين القبور، ترافقه الملائكة كما رافقت المسيح يوم نادى: "لعازر، هَلُمّ خارجاً".
سيزورنا البابا، وسيحضن قلب بيروت ويرسم على جبينها صليب الطمأنينة.
سيزورنا البابا، وستُزهر الأرزة القديمة من جديد، ستُطلّ من بين الضباب وتقول: "أنا هنا، لم أمُت، كنتُ أصلّي"، وسيعود صوت الأجراس ليقول للعالم إنّ الله ما زال يُقيم في لبنان، وأنّ هذا التراب، مهما انكسر، ما زال مذبحاً صغيراً للرجاء.
سيزورنا البابا، ونجلس عند قدميه لنطلب صلاةً تعيدُنا إلى جوهرنا، تعيدُنا إلى ذاك الطفل الذي آمن بأنّ المحبة تغلب الحقد، وأن الوطن ليس مجرّد مساحة بل قلبٌ نحمله معنا في كل الطريق.
سيزورنا البابا، فلتستعدّ القلوب كما تستعدّ الكنائس في عيد القيامة، ولتتزيّن الأرواح بسرّ الاعتراف، فحين يهبط ظلّه على أرضنا، سنعرف أنّ الله لم يتركنا، بل كان ينتظر معنا، على صخرةٍ صغيرةٍ اسمها لبنان.
سيزورنا البابا، ويقف أمام جبل الأرز، الشاهد العتيق، الذي لم يغيّره الزمن، ليرى في جذوره انعكاس جذوعنا، متعبةً، مرهقةً، لكنها لا تموت.
سيزورنا البابا، ويقرأ في صمت الأرض موسيقى القيامة، ويشعر بأن كل وادٍ وجبلٍ وأرزٍ وكل ركنٍ من لبنان يحمل صلاةً لم تُسمع بعد.
فيا قداسة البابا، أيّها الأب القادم من ضوء السماء، مرحباً بك في أرض تعلّمت أن تصلّي قبل أن تتكلّم. أهلاً وسهلاً بك في وطنٍ خَبِرَ العذابَ حتى صار وجهه أيقونة.
مُرّ بقلب بيروت، وازرع بركتك على ضريح شهيدٍ من حرير.
اعبر صوب المرفأ، وارمِ بركتك على التراب المحروق والأرواح المتعبة.
مشّط جنوبنا المُهلك بخيوط نورِ ثوبك.
يا قداسة البابا، أنا لبنان… يَذْكُرني الكتابُ المقدّس بالإسم إحدى وسبعين مرّة، أنا الأرز المغروس في ذاكرة الله، أنا الجبل الذي سمع صلوات الأنبياء، أتيتَ يا قداسة البابا، لتلمسَ جبهتي المليئة بنُدوب الحروب، لتقرأ في ترابي قصةَ شعب صغير لكن عظيم في إيمانه.
فانظر إلى أبنائي المنتشرين على وجه الأرض، هُم رُسلي الصغار إلى المنافي، يحملون معي خشبة الصليب، ويزرعون في الغربة خبزَ الأمل، وإذا عادوا، عاد معهم وجهُ القيامة.
لا تخف من وجهي المُتعب، فهو وجهُ قدّيس لم يُعلَن بعد.
لا تخف من صمتي، فهو صلاةٌ أطول من الكلام.
لا تخف من عيوني، دموعُها تلك، بريقُ نجاة.
باركني، باركني ليس لأنّي مُستحقّ، بل لأنّي ما زلت أؤمن رغم الخيبات، وما زلتُ أرفع رأسي نحو السماء وأقول: "يا رب، أعطني السلام".
قُل للعالم إنّ الإيمان ما زال يسكن بين أنقاضي.
قُل لهم أنّ أرزتي لم تنحنِ إلاّ للرياح كي لا تنكسر.
قُل لهم إنّ في لبنان دموعاً تُنبت ورداً، وفي جروحه أناشيد.
قُل لهم إنّني ما زلت أنتظر الربّ عند الباب.
قُل لهم على هذه الأرض حوّل المسيحُ الماءَ خمْراً.
قُل لهم: "هَلْ يَخْلُو صَخْرُ حَقْلِي مِنْ ثَلْجِ لُبْنَانَ؟"
وحين تغادر أرضي، اترك لي صلاتك على المذبح، فَمِنها سيولد الفجر، ومنها سيقوم لبنان من رماده، حاملاً صليبه… لا كوجع، بل كوسام حبٍّ على صدر التاريخ... واحمل معك بخوراً من عنايا، شموعاً من دير كفيفان، ومسبحةً من وادي قاديشا... هذه أثمن ما تمتلك هذه الأرض.
يا لبنان، استفِق من حزنك، فالعُكّاز الذي تتّكِئ عليه اليوم سيتحوّل إلى صليبٍ يرفعك غداً.
يا لبنان، اغسل جروحك بماء الأرز، وافرش ساحاتك بغصون الغار والزيتون.
يا لبنان، كُفّ البكاء، فحين تطأ قدما البابا أرضك، سيعرف العالم أنّك ما زلت تُحبّ الله رغم كل ما فعلوه بك، وأنّك، مهما انكسر الخبز على موائدك، ما زلت تعرف أن تقول: "هللويا".

قدمنا لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى هذا المقال : زيارةٌ من السماء إلى لبنان - شبكة جدة الإخبارية, اليوم الاثنين 13 أكتوبر 2025 11:35 صباحاً