نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
حين ينكسر جدار الصمت: مسيحية سوريا بين حضور متجذر ومصير مهدّد - شبكة جدة الإخبارية, اليوم الاثنين 30 يونيو 2025 12:10 مساءً
الخوري ريمون أبي تامر
من الذاكرة إلى اللحظة
في قلب دمشق، حيث تفوح رائحة التاريخ من حجارة الكنائس القديمة، ضرب التفجير الأخير كنيسة مار الياس فهزّ الأرض كما الوجدان.
لكن في بلد لا يُعالج تاريخه، بل يُراكم صمته، لم يكن الانفجار حدثًا معزولًا، بل لحظة رمزية كشفت هشاشة المسيحية السورية في حاضرها، واستدعت ماضيها العنيف.
وهذا الماضي ليس بعيدًا. فمن مجازر 1860، إلى تفجيرات اليوم، ومن صمت السلطة البعثية، إلى تعقيدات العهد الجديد مع أحمد الشرع، تبدو الكنيسة السورية وكأنها تعيش تاريخها في زمن دائري، تُستهدف فيه عند كل تحوّل، وتصمت فيه عند كل خطر.
قراءة بانورامية للذاكرة – 1860 واستشهاد الأخوة المسابكيين
في حزيران (يونيو) 1860، اجتاحت الفوضى الطائفية جبل لبنان، لكنها لم تتوقف عنده.
في دمشق، وتحديدًا في حي باب توما، تكرّرت المأساة حين استُبيحت الكنائس والمنازل، واقتحم الغوغاء دير الآباء الكبوشيين، حيث استُشهد "الأخوة المسابكيين".وفي عام 2025، أعلنت الكنيسة قداسة الأخوة المسابكيين الذين استُشهدوا عام 1860.
هذه المجزرة لم تكن فقط دموية، بل تأسيسية في الوعي المسيحي السوري: لقد أظهرت أن الكنيسة، حتى في زمن الإمبراطورية العثمانية، ليست محمية من العنف، ولا معفاة من الكراهية.
من وجهة أنثروبولوجية، بقي هذا الحدث جرحًا غير معالج، اختار المسيحيون الصمت بشأنه، كما اختاروا لاحقًا تجنّب الخطاب السياسي العلني.
فالكنيسة في سوريا لم تُعطَ الفرصة لتكون فاعلًا سياسيًا، بل حُوصرت بدور الطقس والرعاية، وأُقصيت عن فضاء القرار والمطالبة.
المسيحية السورية – حضور لا صوت له
المسيحية في سوريا ليست دخيلة. هي من جذور الأرض، من حجارة المدن القديمة، من لغة السريان، ومن الكنائس المحفورة في الجبال.
لكن حضورها، رغم عمقه التاريخي، لم يتحوّل إلى قوة تمثيلية في الدولة الحديثة.
في ظل غياب الديمقراطية، تحوّلت الكنيسة إلى ما يشبه الملاذ الصامت.
فقد كانت المؤسسة الكنسية تفضّل الانكفاء، لا من باب الجبن، بل من باب الحذر.
وهذا الحذر ترافق مع فقدان الأداة السياسية، وغياب الخطاب الحقوقي، وخوف دائم من تكرار المآسي.
من منظور فلسفي–سياسي، لم تُنتج الكنيسة سردية واضحة لموقعها من السلطة، من المجتمع، من التاريخ.
واكتفت بالبقاء، لا بالحضور.
الصمت كنظام في عهد الأسد – الحماية مقابل الولاء
في عهد الأسد الأب، ثم الابن، اتخذ الصمت المسيحي طابعًا منهجيًا.
لم يكن فقط سياسة غير مُعلنة، بل شرطًا للبقاء.
الدولة تُقدّم الحماية، والكنيسة تمتنع عن الكلام، حتى حين كانت البلاد تُسحق تحت الاستبداد، والسجون تبتلع الأبرياء، والحروب تُفتَعل.
هذا النمط من العلاقة حوّل الكنيسة إلى رمز دون صوت، وإلى طيف من الحضور.
وفق تحليل ميشيل فوكو، فإن الصمت هنا ليس عدمًا، بل آلية إنتاج لمعانٍ مشروطة بالسياق السلطوي.
بينما ترى هانا آرنت أن السكوت الطويل أمام الاستبداد لا يحمي الجماعة، بل يُخرجها من السياسة، ويجعل وجودها هشًا أمام أي تبدّل.
وهذا ما حصل بالفعل: الصمت لم يمنع التفجير، ولم يؤمّن الأمان.
التفجير كلحظة انكشاف – مار الياس يفتح الجرح، والبطريرك يرفع الصوت
لم يكن تفجير كنيسة مار الياس في دمشق مجرّد عملية أمنية أو انفجارًا في الجغرافيا، بل كان انفجارًا في المعنى والصمت والزمن.
هذا الحدث لم يستهدف فقط حجارة الكنيسة ولا المؤمنين بداخلها، بل أصاب التوازن الرمزي الذي حافظت عليه المسيحية السورية لعقود.
فمنذ حكم البعث، وتحديدًا في ظل الأسد الأب والابن، تموضع الحضور المسيحي ضمن معادلة دقيقة: "احتمِ، ولكن لا تعترض. كن هنا، ولكن لا تتكلم.".
لكن التفجير كسر هذه المعادلة، لأنه أصاب من لم يكن طرفًا في أي صراع ظاهر، ولا جزءًا من خطاب سياسي معارض. وهنا تمامًا برز حدث نوعي وفارق: عظة البطريرك يوحنا العاشر اليازجي.
في عظة أُلقيت بعد أيام من التفجير، خرج البطريرك عن اللغة التقليدية الحذِرة، وقالها بوضوح:
"لا يمكن بعد اليوم أن نقبل أن تُستهدف كنائسنا ويُقتل أبناؤنا ويُطلب منا الصمت. الكرامة ليست ترفًا، والشهادة ليست صمتًا، بل حق في الحياة والوجود والقول".
بهذا الخطاب، انكسر الصمت رسميًا. لم يعد الكلام محصورًا في الأروقة، بل خرج من أعلى منبر كنسي، ليدخل الفضاء العام.
من الناحية الأنثروبولوجية، يُعدّ هذا الحدث لحظة "نطق جماعي"، أي أن الجماعة التي كانت صامتة أصبحت لها صوت ممثل ومعلن.
ومن الناحية السياسية–الفلسفية، يمكن فهم هذا الموقف كاستعادة للكرامة المدنية. لم تعد الكنيسة مجرد ملاذ روحي، بل فاعل في تحديد شروط العيش المشترك.لقد تحوّلت الكنيسة، في لحظة الألم، من حالة رمزية صامتة إلى حالة نبوية ناطقة.
عهد أحمد الشرع والتفجير – اختبار الوجود والحرية
حدث التفجير في كنيسة مار الياس أثناء حكم أحمد الشرع، وهو ما يضع الكنيسة أمام اختبار جديد وحساس في تاريخها.
في هذا العصر، حيث السلطة السياسية تتغير، لكن مخاطر العنف والتوترات الطائفية تبقى حاضرة، تواجه الكنيسة سؤالًا مصيريًا:
هل تستمر في سياسة الصمت حفاظًا على بقائها، أم تتحوّل إلى قوة مطالبة بحقها في الوجود والحرية؟
إنها لحظة حاسمة تتطلب حكمة بالغة في الموازنة بين المبادئ المسيحية، التي تدعو إلى المحبة والتسامح والسلام، وبين الحق المشروع في التعبير، والمطالبة بالكرامة، وبمشاركة فاعلة في بناء المجتمع.
الكنيسة مدعوة اليوم إلى تجاوز الانكماش الذي ورثته، وإلى استعادة صوتها الذي لا يهدد أحدًا، بل يطالب بحماية الوجود وحرية الضمير.
هذه ليست فقط مسألة دينية، بل قضية سياسية وإنسانية، تعكس حقيقة أن الحرية والمطالبة بالحقوق هما من أسمى تعاليم المسيحية نفسها.
في هذا الإطار، يصبح التفجير ليس فقط حدثًا مأساويًا، بل منعطفًا تاريخيًا يدعو الكنيسة السورية إلى إعادة النظر في علاقتها مع السلطة، والمجتمع، والنفس.
من الكنيسة إلى الشهادة
لقد آن الأوان للمسيحية السورية أن تتجاوز دور الكنيسة الطقسية إلى كنيسة التاريخ والمصير.
أن تتحرّر من الحياد القاتل، ومن ثقافة الخوف، وأن تدخل فضاء الشهادة الحيّة:
الشهادة التي لا تعني الموت فقط، بل تعني الكلام، المطالبة، الإسهام في بناء سوريا أخرى.
لا خلاص جماعي بلا ذاكرة، ولا مستقبل بلا كلام.
والكنيسة، إن أرادت أن تحيا، فعليها أن تنطق.
0 تعليق