الحكمة: ظاهرة تتجاوز الرياضة - شبكة جدة الإخبارية

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الحكمة: ظاهرة تتجاوز الرياضة - شبكة جدة الإخبارية, اليوم الاثنين 30 يونيو 2025 11:30 صباحاً

فرانسيسكا موسى

 

 

في بلدٍ يعاني من أزمات مزمنة، وانقسامات سياسية وطائفية عميقة، تهاوت فيه مؤسسات الدولة وتبدلت فيه الولاءات، يبرز نادي الحكمة استثناء نادراً. ليس مجرد نادٍ رياضي ينافس على الألقاب، بل حالة شعورية وثقافية راسخة، تمتد من الملاعب إلى الوجدان الجماعي لجيل كامل من اللبنانيين.
تأسّس نادي الحكمة عام 1943 في مدرسة "الفرير" في الأشرفية، وكان في بدايته مشروعًا تربويًا يرتكز على القيم والتعليم، لا على البطولات. لكن مع مرور السنوات، وتحديدًا خلال التسعينات وبداية الألفية، تحوّل إلى قوة رياضية ضاربة، خصوصًا في كرة السلة، بحيث فرض اسمه بقوة على الساحتين المحلية والآسيوية.
على مدار تاريخه، حقق نادي الحكمة سلسلة إنجازات حافلة في كرة السلة جعلته أحد أعمدة اللعبة في لبنان والعالم العربي. فقد تُوِّج ببطولة الدوري اللبناني لكرة السلة ثماني مرات، بين عامي 1993 و2004، في مرحلة ذهبية شهدت سيطرة شبه مطلقة للفريق على الساحة المحلية. كما فاز بسبعة ألقاب متتالية بكأس لبنان خلال المرحلة ذاتها، وكتب اسمه بوضوح في سجلّ البطولات الإقليمية، بإحرازه ثلاث بطولات آسيوية للأندية في أعوام 1999 و2000 و2004، إضافة إلى تتويجه بالبطولة العربية مرتين في 1998 و1999. وكان نادي الحكمة أول فريق لبناني يشارك في بطولة العالم للأندية عام 2000، ما وضعه على الخريطة العالمية وأكسبه احترامًا إقليميًا ودوليًا. 
هذه الإنجازات لم تكن مجرد ألقاب، بل شكلت لحظات تاريخية من الفخر الجماعي، انعكست في مدرجات تعجّ بالجماهير وفي ذاكرة رياضية لم تُمحَ. فعدد الانتصارات التي حققها النادي في المباريات النهائية محليًا وعربيًا وآسيويًا يقدّر بما يزيد عن خمسين فوزًا حاسمًا، وهو رقم يكشف عن حجم البصمة التي تركها الفريق في ذاكرة الرياضة اللبنانية. لكن سرّ نادي الحكمة لم يكن يومًا في عدد الكؤوس فحسب، بل في العلاقة التي نسجها مع جمهوره. في بلدٍ تنهار فيه القيم الجماعية وتتفكك فيه الروابط، استطاع النادي بناء علاقة استثنائية مع مشجعيه، علاقة لا تقوم على منطق الربح والخسارة، بل على الولاء والانتماء. هذا الانتماء لا يقتصر على الأجيال التي عايشت العصر الذهبي للفريق فحسب، بل يمتد إلى فئة الشباب الذين وجدوا في الحكمة مساحة للتعبير والتمسّك في ظل واقع اجتماعي واقتصادي ضاغط. فبالنسبة إلى كثير من المراهقين، لم يكن النادي مجرد فريق، بل ملاذ شعوري، يمنحهم شعورًا بالانتماء والاستقرار في بيئة يغلب عليها القلق والتقلّب. على الصعيد الجماهيري، يتمتع الحكمة بجمهور يُعد الأكثر إخلاصًا وحماسة في لبنان. قاعة أنطوان شويري في غزير، التي تتسع لنحو خمسة آلاف متفرج، غالبًا ما تكون ممتلئة خلال المباريات المفصلية، وخصوصًا في مواجهات الدربي مع النادي الرياضي. خلال الموسم الأخير، تجاوز عدد المشجعين في بعض المباريات الحاسمة حاجز الألفي متفرج، فيما امتد الحضور في النهائيات خارج جدران القاعة عبر شاشات تُنصَب في محيط الملاعب. هذه الجاذبية الجماهيرية، رغم كل الأزمات المالية والسياسية والاقتصادية التي تمر بها البلاد، تدلّ على أن علاقة الجمهور بالحكمة ليست علاقة لحظية، بل ارتباط عميق متجذر في الهوية والذاكرة. وفي بلدٍ يعاني من بطالة متفاقمة بين الشباب، تتجاوز نسبتها 47%، وتصل نسبة الفقر إلى 60%، لا يعود من الغريب أن يتحول نادٍ رياضي إلى متنفس جماعي. فبين الانهيار الاقتصادي والانقسامات السياسية، يمنح الحكمة كثيرين شعورًا نادرًا بالثبات، والانتماء إلى شيء حقيقي لا يزال صامدًا رغم كل شيء. 
وعلى رغم التحديات وتراجع النتائج إلى الأزمات الإدارية والمالية التي مر بها النادي، ظل جمهور الحكمة وفيًا، بل إن كل أزمة كانت، في بعض الأحيان، تزيده تمسكًا بفريقه، وكأن العلاقة بين النادي وجمهوره تمرّ باختبار دائم لا يزيدها إلا متانة وتجذّرًا.
 في السياق العربي، قلّما نرى ناديًا يتحوّل إلى ظاهرة مجتمعية متكاملة، تتخطى الرياضة إلى عمق الهوية الوطنية والثقافية. لكن نادي الحكمة فعل ذلك. ليس لأنه فاز بالبطولات فحسب، بل لأنه مثّل ما هو أكبر: الثبات في زمن الاضطراب، والولاء في عصر التقلّب، والانتماء في مجتمع يبحث عن نقاط ضوء وسط العتمة.
في بلد فقد الكثير من رموزه وثوابته، يبقى نادي الحكمة من العناوين القليلة التي تمنح اللبناني شعورًا بأنه لا يزال هناك ما يستحق الانتماء إليه. ليس مجرد فريق يسعى إلى الألقاب، بل تجربة إنسانية صنعتها العقود، ونسجها الإخلاص، وصمدت رغم كل الرياح.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق