نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
المشاكل النفسية: السبب الأول لبطلان الزواج الكنسي في لبنان - شبكة جدة الإخبارية, اليوم الخميس 26 يونيو 2025 07:20 مساءً
حبيب خلف*
في ظل التحولات الاجتماعية والنفسية التي يشهدها المجتمع اللبناني، برزت المشاكل النفسية كأحد الأسباب الأكثر شيوعاً للتقدم بدعاوى بطلان الزواج الكنسي أمام المحاكم الروحية. فبعدما كانت الأسباب التقليدية للبطلان تتمحور حول العجز الجنسي أو الإكراه أو عدم نية الإنجاب، باتت الاضطرابات النفسية تشكل محوراً أساسياً في معظم القضايا المعروضة أمام الهيئات الروحية المختصة.
يُعتبر الزواج في الكنيسة الكاثوليكية سراً مقدساً فهو بحسب القانون عقد وعهد، يرتكز على حرية الإرادة والقدرة على تحمل المسؤوليات الزوجية. غير أن العديد من الأزواج يواجهون تحديات نفسية غير ظاهرة عند الارتباط، لكنّها تؤثر بشكل مباشر على قدرتهم على العيش المشترك. فحالات الاكتئاب الحاد، واضطرابات الشخصية، والقلق المزمن، والاضطرابات العاطفية، وحتى الإدمان، أصبحت أسباباً جوهرية تدفع أحد الزوجين إلى التقدم بطلب بطلان الزواج، على اعتبار أن هذه العوامل قد تؤدي إلى عجز الطرف المصاب عن تحقيق الأبعاد الجوهرية للزواج كالحب والتفاهم والمشاركة في الحياة الزوجية وخير الزوجين.
تعتمد المحاكم الروحية الكاثوليكية في لبنان على القانون الكنسي الذي يحدد مجموعة من الشروط الجوهرية لصحة الزواج. ومن أبرز المواد القانونية التي تُعتمد في قضايا البطلان بسبب المشاكل النفسية، القانون 818 من مجموعة قوانين الكنائس الشرقية التي تنص على أن الزواج يكون باطلًا إذا كان أحد الطرفين غير قادر على تحمل موجبات الزواج الجوهرية والاساسية بسبب علّة نفسية خطيرة.
وقد أكد عدد من القضاة الروحيين والمحامين المختصين في القانون الكنسي في تصريحات مختلفة أن نسبة الدعاوى المقدمة بسبب المشاكل النفسية ارتفعت بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، وأصبحت تمثل السبب الرئيسي للبطلان في المحاكم الروحية اللبنانية. ويعود ذلك إلى عدة عوامل، من أبرزها الضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي تؤثر على الصحة النفسية للأفراد، والتي تغذي وتوقظ العديد من المشاعر الدفينة والتي نشأت منذ الطفولة إضافة إلى طريقة تربية الأهل لأولادهم، كل هذه العوامل وغيرها من الممكن أن تؤثر على السلامة النفسية للزوجين والتي قد تنعكس سلباً على العلاقة اليومية وتؤثر بشكل مباشر على الأطفال، أضف إلى ذلك، الوعي المتزايد لدى الأزواج بإمكانية اللجوء إلى القضاء الكنسي عند اكتشاف اضطرابات نفسية خطيرة لدى الشريك.
وقد يعتبر البعض أنه بمجرد شكوكه أن لدى الشريك بعض الاضطرابات أو إذا كان شديد العصبية بسبب ضغوطات معينة أنه يستطيع أن يطالب ببطلان الزواج، أو أنه بمجرد أن يقدم الدعوى لدى المحاكم الروحية فقد استحصل على الحكم فوراً. وهذا خطأ يقع العديد من الازواج فيه. وبالرغم من الارتفاع الملحوظ في هذا النوع من الدعاوى، لا تزال هناك تحديات عديدة تواجه مقدمي الطلبات، لا سيما في إثبات أن العلة النفسية كانت سابقة للزواج إضافة إلى إعطاء أمثلة واقعية مدعومة بالاثباتات، ومن ناحية أخرى قد يواجه البعض الضغوط الاجتماعية والدينية والعائلية التي قد تفرض على الأزواج البقاء في زواج غير مستقر رغم وضوح عدم أهليته للاستمرار.
فقضايا البطلان المرتبطة بالمشاكل النفسية تُعتبر معقدة نظراً لضرورة إثبات أن الاضطراب النفسي كان موجوداً قبل الزواج وأنه يؤثر بشكل جوهري على العلاقة الزوجية. ولهذا، تعتمد المحاكم الروحية على تقارير خبراء نفسيين وأطباء متخصصين لتحديد مدى تأثير الحالة النفسية على استمرارية الزواج. وهنا تحدث إشكالية أخرى فيعتبر المتقاضون أنه بمجرد الاستحصال على خبرة نفسية من المعالجين النفسيين المختصين والمعتمدين من قبل المحكمة، فهم بذلك حصلوا على حكم ببطلان الزواج، وهذا أيضاً خطئ شائع، ومن هنا يجب التمييز بين صعوبة القيام بمسؤوليات الحياة الزوجية المشتركة وبين عدم القدرة النفسية على تحمل هذه المسؤوليات، وقد تحدث عنه قداسة البابا يوحنا بولس الثاني في خطابه الشهير أمام قضاة محكمة الروتا بتاريخ 15/2/1986 إذ قال: "على رجال القانون الأخذ بعين الاعتبار أن ما يبطل الزواج هو انعدام القدرة النفسية الذي يعطل الإرادة التعاقدية وليس صعوبة هذه الإرادة على تحمل الحياة الزوجية المشتركة... ولا يجوز للقاضي البت في موضوع انعدام القدرة النفسية إلا بعد التأكد من وجود اختلال خطير يصيب الإدراك الواعي أو الإرادة الحرة وبالتالي لا يجوز له أن ينتظر من الأخصائي تقريراً يعلن نيابة عنه بطلان الزواج، فتقرير بطلان الزواج يعود للقاضي دون سواه".
إن تزايد دعاوى بطلان الزواج بسبب المشاكل النفسية يسلط الضوء على أهمية الإعداد النفسي للزواج، وضرورة تقديم الدعم النفسي قبل وبعد الارتباط لضمان زواج مستقر ومستدام. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى تعزيز دور الإرشاد الزوجي داخل الكنيسة، وتشجيع المقبلين على الزواج على الخضوع لتقييم نفسي قبل اتخاذ هذا القرار المصيري.
في النهاية، يبقى الزواج عهداً يستند إلى الحب والتفاهم والقدرة على الالتزام، لكنّ استمراريته تتطلب أيضاً وعياً نفسياً وصحياً يضمن نجاحه، وإلّا فإن اللجوء إلى البطلان قد يصبح الخيار الوحيد لحلّ زواج لم تتوفر فيه مقومات الاستقرار منذ البداية.
*دكتور في القانون الكنسي
0 تعليق