نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
"المناطيد" لإيميلي نوتومب: ليس كل من يقرأ ينجو - شبكة جدة الإخبارية, اليوم الخميس 3 يوليو 2025 08:30 مساءً
في "المناطيد"، لا تسرد إيميلي نوتومب رواية، بل تفتح نوافذ على هواء محمّل بالأوهام، حيث تطير الكلمات بلا وزن، وتتهاوى فجأة كأجساد معلّقة بين المعنى والفراغ. هناك، في إحدى زوايا بروكسل الرمادية، تدخل آنج، فتاة تحمل في حقيبتها كتباً كالشموع، إلى غرفة شاب غريب الأطوار، اسمه "بي". والأخير لا يبحث عن المعرفة، هو المصاب بعسر القراءة، بل عن صوت ينقذه من صمتٍ يلتفّ حوله كحبل.
آنج، الشابة التي ظنّت أن القراءة قد تخلّص، تشبه أوديسيوس في تيهه، لكن بلا إيثاكا. لا تعرف إلى أين تذهب، فقط تمضي بين الصفحات، تائهة مثل من يقرأ خريطة لقلبه في ضوء شمعة. تبدأ مع "بي" بالإلياذة، تهمس له: "في الإلياذة، كل شيء يبدأ بالغضب، لكن الغضب لا يصنع الأبطال، بل يدمّرهم". لقد كان الغضب أصل حكاية الصبي، ووقوده.
لم يرَ "بي" في النصوص ما رأت، لم يسمع موسيقى هوميروس بل صدى ألمه. كأنه هكتور ، وجوليان سوريل توأمه الأعلى. قرأ دوستويفسكي ليجد في راسكولنيكوف أخاً غريباً: شاباً يتسلّح بالأفكار ليبرّر خنجره، ويرى في الجريمة تفوّقاً أخلاقياً لا ندم فيه.

إيميلي نوتومب ورواية “المناطيد“. (النهار)
أرادت آنج أن تفتح له نافذة، ففتح هو باباً للهاوية. كل صفحة قرأها "بي"، لم تكن تأمّلاً، بل ذخيرة. كل سطر تحوّل إلى مبرر، كل فكرة إلى خندق. وحين طلب منها أن تعلّمه كيف يعيش، همست معتذرة: "أنا نفسي، لم يعلّمني أحد".
تتجلّى مأساة بطلة الرواية آنج في أنّها: المعلّمة التي لم تتعلّم، والمثقفة التي لم تشفَ. تعتقد أن الكتب تخلّص، لكنها لا تخلّص إلا من يملك الجرأة على التغيير. "بي" لم يكن قارئاً، بل مُصاباً بالتّلقي. امتصّ الكتب كما يمتصّ الجرح الملح، وحين قَتَل، لم يقتل بدافع حيواني، بل بتبرير ثقافي. لم ينهِ حياةً، بل أنهى سطراً.
الرواية الصادرة حديثاً عن دار الرافدين في بغداد- صدرت طبعتها الفرنسية عام 2020- بترجمة إينانة الصالح، لا تنشغل بالحدث، بل بالتحوّل النفسي الذي خلّفه "بي". ليس قاتلاً، بل مرآة مكسورة لانعكاس ثقافة نُزعت منها الأخلاق. وآنـج ليست فاشلة، بل رمز لمثقفٍ هشّ، لم يستطع أن يحبّ قبل أن يدرّس. تقول له في أحد الاعترافات: "أنا غير متأكدة حتى من كوني حيّة حقاً"، فيجيب: "حين تحضرين، الحياة تهبط. حين تغادرين، ينطفئ كل شيء".
لكن الحضور وحده لا يكفي. لا الكتب، ولا الفصول، ولا القصائد. فالأدب، حين يُلقى على روح جريحة، قد يتحوّل إلى خنجر. وهنا، تتقاطع "المناطيد" مع "الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي. كلاهما ينظر في أعماق قارئ مأزوم، يرى في الفكر سُلطة للقتل، لا محرّكاً للغفران.
وما تصنعه نوتومب هو تفكيك لوهم شائع: أن كل قراءة تنقذ. بينما "بي" يصرخ من بين السطور: ليس كل قارئ نجا. الأدب، في غياب الحب، يتحوّل إلى قناع، وفي غياب التوجيه، يغدو سلاحاً. إنّه مرآة لا تعرف الرحمة، تكشف وجهنا حين نكون عراة من المعنى.
"المناطيد" لا تحلّق، بل تتوهّم الطيران. تمتلئ بالأدب، لكنها خفيفة من الداخل. تنتفخ بالحماسة، ثم تنفجر في صمت. وهذه هي مأساة الثقافة المعاصرة: أن نحمّل الكتب أكثر مما تحتمل، ونطلب منها أن تخلّص، من دون أن نخلّص نحن أنفسنا أولاً.
إنها ليست رواية عن التربية، بل عن هشاشتها. ليست قصة جريمة، بل عن المبررات التي نقتبسها لنصوغ الجريمة. إيميلي نوتومب، ببرودها الرهيف، تكتب عن خطورة الفكر حين يُعطى لقلب لم يعرف الحب.
وفي النهاية، تبقى الرسالة معلّقة في الهواء، كمنطاد آخر لم يحسن أحد إطلاقه:
ليس كل من يقرأ ينجو، وليس كل من يُعلّم يكون قد نجا.
0 تعليق