قهرا لسياسة التجويع.. مصر تكسر ظمأ غزة بـ 346 شاحنة مساعدات

لم تهدأ مصر لحظة ولم تتوان جهودها، منذ بدء العدوان على قطاع غزة في أكتوبر 2024، رفضًا للتهجير تارة، ورفضًا للعدوان تارة أخرى، حتى لجأت إسرائيل إلى السير في دروب الحرب المتطورة، وهو الحصار والتجويع لأهالي القطاع لتضعهم بين سندان الموت جوعًا أو قصفًا، وبين مطرقة التهجير طوعًا.
كانت الرسالة الإسرائيلية واضحة لأهالي القطاع إما الموت تحت القصف والجوع، أو الهجرة القسرية، لكن الرسالة المصرية كانت أوضح: لا للتهجير، لا لتصفية القضية، ولا مساومة على الأمن القومي.
مصر تعمل على وقف نزيف الدم
بدأت فصول هذه الحرب بعملية “طوفان الأقصى” التي أطلقتها حركة “حماس”، لترد عليها إسرائيل بعملية “السيوف الحديدية”، وسرعان ما دخلت مصر على خط المواجهة، ليس بالسلاح، بل بالدبلوماسية.
أصدرت القاهرة بيانها الأول بعد ساعات فقط من اندلاع المعركة محذرة من “مخاطر وخيمة” لتصاعد العنف، وداعية الأطراف الدولية إلى التحرك الفوري لوقف إطلاق النار.
ومنذ تلك اللحظة، تحولت القاهرة إلى خلية نحل دبلوماسية، حيث تحرك الرئيس عبد الفتاح السيسي ووزير الخارجية آنذاك، سامح شكري، في اتصالات مكثفة مع قادة العالم، واضعين نصب أعينهم هدفًا واحدًا وهو وقف نزيف الدم.
وفي الوقت ذاته، بدأت الدولة المصرية استعداداتها الميدانية، حيث أعلنت محافظة شمال سيناء رفع حالة الطوارئ بمستشفياتها استعدادًا لاستقبال المصابين من قطاع غزة، تنفيذًا لتوجيهات القيادة السياسية.
إعلان حالة الطوارئ وتكثيف الدعم
وفي 11 أكتوبر 2023، دخلت وزارة الصحة المصرية على خط المواجهة الطبية، رافعة حالة الطوارئ في شمال سيناء، ومؤكدة الجاهزية التامة لتقديم الإغاثات العلاجية لكافة الحالات التي تعبر من معبر رفح.
وتابعت الوزارة دعمها بمساعدات طبية شملت الأدوية والمستلزمات الحيوية، التي دخلت إلى القطاع عبر القوافل المصرية رغمًا عن القيود الإسرائيلية.
وفي وقت لاحق، بدا الموقف المصري أكثر حدة بعد تصريحات متحدث باسم الجيش الإسرائيلي دعا فيها سكان غزة للانتقال إلى مصر “لتفادي القصف”، في محاولة واضحة لخلق موجة نزوح.
رفضت القاهرة تلك المحاولة القذرة بشدة، ونفى مسؤولون إسرائيليون لاحقًا تلك التصريحات، لكن الرد المصري الأبلغ جاء من الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي أكد بوضوح أن مصر لن تسمح بتصفية القضية الفلسطينية، ولن تتهاون في حماية أمنها القومي.
على الأرض، كانت إسرائيل تُمعن في تضييق الخناق، خصوصًا عبر التحكم في معبر رفح من الجانب الفلسطيني، مانعة دخول المساعدات.
رفض مصري قاطع لسياسة التجويع
ورغم ذلك، لم تتراجع مصر، بل مارست ضغوطًا متواصلة في جميع المحافل الدولية، ورفعت صوتها عاليًا ضد سياسة “التجويع والإبادة الجماعية”، ما أجبر تل أبيب على التراجع ولو جزئيًا، وفي 21 أكتوبر 2023، نجحت مصر في إدخال 20 شاحنة إغاثية محملة بالأدوية والمستلزمات الطبية إلى داخل غزة.
لم تكن تلك سوى بداية، فعلى مدار 21 شهرًا من الحرب، واجهت مصر تعنتًا إسرائيليًا مستمرًا، لكنها لم تتوقف عن المحاولة، واليوم، تدخل القاهرة فصلًا جديدًا من كسر الحصار، حيث نجحت في إدخال 166 شاحنة مساعدات غذائية إلى غزة، وتستعد لإدخال 180 شاحنة إضافية، في خطوة تؤكد أن الجهود المصرية مستمرة رغم كل المعوقات.
وتأتي هذه التحركات في وقت بالغ الصعوبة، حيث أغلقت إسرائيل منذ مارس 2025 المعابر بشكل شبه تام، وأوقفت إدخال أي مساعدات، ضمن سياسة هدفها المعلن وغير المعلن دفع سكان غزة إلى “الهجرة الطوعية” تحت وقع الجوع والقصف، ضمن مخطط تبناه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
وندد وزير الخارجية بدر عبدالعاطي مرارًا وتكرارًا في لقاءاته الدبلوماسية، بما تفعله إسرائيل في غزة، ليضع العالم أجمع على مرأى ومسمع بما تفعله تل أبيب بالقطاع من نهج لا ينتج عنه إلا الإبادة الجماعية.
الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة ومحاولات التصفية
ولم تكن المحاولات الإسرائيلية محصورة في الحصار فقط، بل امتدت إلى استخدام المساعدات كسلاح، ففي واقعة مأساوية، قامت منظمة “غزة الإنسانية”، التي تعمل بإشراف إسرائيلي أمريكي، بتوزيع المساعدات قرب مراكز إغاثة تحولت إلى “مصائد موت”، كما وصفها سكان غزة، بعد أن استهدف الجيش الإسرائيلي المدنيين المتجمهرين حولها.
في غضون ذلك، كان القطاع ينهار، والمجاعة باتت واقعًا، والأسواق خلت من المواد الغذائية، والقمامة تتراكم، والأمراض تنتشر، والناس يسقطون في الشوارع من الجوع والجفاف.
ووفق وزارة الصحة في غزة، فإن أكثر من 37% من الأدوية الأساسية، و59% من المستهلكات الطبية قد نفدت بحلول أبريل الماضي، ما زاد الوضع الصحي سوءًا.
ولم تكن الأمم المتحدة بعيدة عن المشهد، فقد حذرت سبع من وكالاتها المشتركة من أن نقص الوقود بلغ “مستويات حرجة”، محذرا من المزيد من التدهور الإنساني، حيث قالت في بيان مشترك: “الوقود هو العمود الفقري للبقاء على قيد الحياة في غزة”.
رغم كل هذا، لم تفقد مصر بوصلتها، وظلت على موقفها الثابت، ترفض التهجير، وتدافع عن حق الفلسطينيين في البقاء على أرضهم، وتواصل بذل الجهد لكسر الحصار وتقديم الحياة لشعب يُراد له الموت.
نهى بكر: مصر شريان الحياة لغزة منذ بداية العدوان
في هذا الشأن قالت أستاذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالجامعة الأمريكية، الدكتورة نهى بكر، إن مصر مثّلت شريان الحياة الرئيسي لسكان قطاع غزة منذ بداية العدوان في أكتوبر 2023، حيث لعبت دورًا محوريًا في توفير المساعدات الإنسانية، وتجاوزت جهودها الجانب الإغاثي لتصل إلى المستويات الدبلوماسية والسياسية.
وأضافت بكر، في تصريحاتها لـ”تليجراف مصر”: “من أبرز مظاهر هذا الدور، أولًا: حجم المساعدات المصرية والمساهمة النسبية، إذ تمثّل المساعدات المصرية ما نسبته 70-80% من إجمالي المساعدات الإنسانية التي دخلت قطاع غزة منذ بداية الحرب وحتى يوليو 2025”.
وأوضحت أن “الأرقام الفورية تُبيّن أنه خلال يومي 23 و24 يوليو 2025 فقط، دخلت 346 شاحنة مساعدات عبر معبري كرم أبو سالم، منها 137 شاحنة محمّلة بالدقيق، والمواد الغذائية الأساسية، والمستلزمات الطبية”.
وتابعت: “ثانيًا، التنوع الإغاثي؛ إذ شملت المساعدات المصرية المواد الغذائية، وبالأخص الدقيق، إلى جانب المستلزمات الطبية ومستلزمات الإيواء، والمساهمةً في مواجهة أزمة التجويع والانهيار الصحي”.
وأردفت أستاذ العلوم السياسية: “ثالثًا، قنوات إدخال المساعدات وآليات التوزيع؛ حيث اعتمدت مصر بشكل رئيسي على معبر رفح، الذي ظل مفتوحًا من الجانب المصري، بالإضافة إلى تنسيق دخول الشاحنات عبر معبري زكيم وكرم أبو سالم”.
وأضافت: “إلى جانب ذلك، فعّلت مصر الجسور الجوية، حيث نفّذت القوات الجوية المصرية، بالتعاون مع كل من الإمارات والأردن، عمليات إسقاط جوي للمساعدات على المناطق المعزولة في شمال غزة، عبر مطار العريش”.
الهلال الأحمر المصري ذراعٌ تنفيذي
وأضافت بكر أنه “فيما يتعلّق بالدعم الطبي الميداني، أنشأت مصر مستشفى ميدانيًا متكاملًا على الحدود في شمال سيناء لاستقبال الجرحى الفلسطينيين وتقديم الرعاية الطبية العاجلة، مع السماح للجرحى وذويهم بالعلاج داخل مصر”.
كما أوضحت أن “الهلال الأحمر المصري عمل كذراعٍ تنفيذيٍّ، بالتنسيق مع الأمم المتحدة والهلال الأحمر الفلسطيني، لضمان وصول المساعدات إلى المناطق الأكثر تضررًا”.
وأكدت الدكتورة نهى بكر، أن “هذا الدور لم يقتصر على الجانب الإنساني، بل امتدّ إلى الجهود الدبلوماسية والدولية؛ فقد كثفت مصر تحركاتها مع الأمم المتحدة، والولايات المتحدة، وقطر، لكسر الحصار الإنساني والضغط على إسرائيل لفتح المعابر”.
وأردفت: “كما تقدمت مصر بمبادرات سياسية، أبرزها خطة إعادة إعمار غزة التي تم تبنيها عربيًا وإسلاميًا، والتي ركزت على توفير سبل الصمود للفلسطينيين في مواجهة محاولات التهجير”.
وأكدت أن مصر واصلت وساطتها الفاعلة في مفاوضات وقف إطلاق النار، وربطت أي اتفاق بضمانات لتدفق المساعدات بشكل دائم ورفع القيود الإسرائيلية، رغم ما واجهته من تعنّت إسرائيلي، خاصة فيما يتعلق بالقيود المفروضة على حركة الشاحنات من الجانب الإسرائيلي، حيث يتحكّم الاحتلال في الجانب الفلسطيني من معبر رفح.
واختتمت بالإشارة إلى بيان وزارة الخارجية، الذي صدر بصيغة شديدة اللهجة، مستنكرًا الاتهامات الإسرائيلية الباطلة التي تدّعي مساهمة مصر في “حصار غزة”، مؤكدة أن هذه الادعاءات تتناقض مع موقف مصر الثابت ومصالحها، وهو ما شهد عليه المجتمع الدولي والزائرون الدوليون المعنيون بالملف، وأهالي غزة أنفسهم.
المصدر: تيليجراف مصر
تعليقات