من الماجنيتو للتحول الرقمي.. قصة ثلاثية سنترال رمسيس التي ربطت مصر بالعالم

في قلب القاهرة، وعلى بعد خطوات من محطة رمسيس، يقف مبنى “سنترال رمسيس” شامخًا، لا كبناية خدمية فحسب، بل كأثر حي يروي تطورات الاتصال في مصر، شاهدًا على قرن من التحولات العمرانية والتكنولوجية والاجتماعية.
وعلى الرغم من الحريق الذي اندلع مؤخرًا في أحد مبانيه الحديثة، فإن ما لفت الأنظار مجددًا هو القيمة التاريخية لهذا الكيان الذي ظل لعقود جزءًا من تفاصيل الحياة اليومية للعاصمة.
جذور تعود إلى العشرينيات
في صباح يوم الأربعاء 25 مايو 1927، وخلال مراسم رسمية داخل مبنى “سنترال رمسيس” بالقاهرة، ضغط الملك فؤاد الأول على زر الهاتف الموضوع أمامه، لينبعث صوت من بوق معلق في السقف معلنًا: “بأمر جلالة الملك يٌعلن افتتاح مركز المدينة التليفوني رسميًا.. يحيا الملك، يحيا الملك، يحيا الملك، أدام الله عزه”.
أجرى الملك أول مكالمة هاتفية في مصر من سماعة مصنوعة من الفضة، وكان الهاتف المستخدم آنذاك من طراز “إريكسون”، ونقش عليه: “الجهاز الذي تفضل فؤاد الأول ملك مصر وافتتح به سنترال تليفون المدينة بالقاهرة في يوم الأربعاء 25 مايو سنة 1927”، وهو موجود الآن في متحف المركبات الملكية.
وثقت مجلة المصور هذا المشهد في عددها الصادر في يونيو من العام نفسه، مشيرة إلى أن افتتاح “سنترال رمسيس” كان حدثًا استثنائيًا ومؤشرًا على دخول مصر عصرًا جديدًا في عالم الاتصالات.
تم اختيار موقعه في قلب العاصمة ضمن المنطقة التي كانت تعرف وقتها بـ”شارع الملكة نازلي”، ومنذ ذلك اليوم، لم يتوقف سنترال رمسيس عن لعب أدوار محورية في تاريخ الاتصالات بمصر، حتى بات من المستحيل تخيل الشبكة القومية بدونه.
ولم تكن فكرة الهاتف غريبة عن مصر وقتها، ففي عام 1881، حصلت شركة “أديسون بل” الأمريكية على ترخيص من الحكومة المصرية لإنشاء شبكة تليفونات تربط القاهرة والإسكندرية وضواحيهما، وفقًا لما ورد في موسوعة “مدينة القاهرة في ألف عام” لزكي عبد الرحمن.
جاء هذا التطور بعد سنوات قليلة من تأسيس مصلحة التلغراف والتليفونات عام 1864، في إطار التوسع في خطوط التلغراف التي بدأت مع إنشاء خطوط السكك الحديدية، ثم دخلت قصور الحكم كأداة حديثة للتواصل الداخلي والدولي عبر الخطوط البحرية.
الاتصالات تحت الاحتلال
مع الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882، ازدادت أهمية خدمات الاتصال، فتمت مضاعفة الكابلات في المدن الحيوية، وخاصة مدن القناة.
وفي عام 1888، شُغل أول سنترال يدوي بنظام “الماجنيتو”، وكان يخدم 3000 خط، واستمر حتى عام 1936، وتناوبت شركات عدة على إدارة شبكة الاتصالات، بداية من “الشركة الشرقية” ثم “شركة التليفون”، حتى قررت الحكومة عام 1918 شراء المنشآت بمبلغ 750 ألف جنيه وضمها إلى مصلحة التلغرافات.
عام 1926، تم تركيب أول سنترال أوتوماتيكي في القاهرة (سنترال العتبة) باستخدام نظام “بي ستروجر”، وبعده بعام، تم إنشاء ما يعرف اليوم بـ”سنترال رمسيس”، أحد أهم المراكز التليفونية الحديثة في ذلك الوقت.
المبنى شُيد على شارع الملكة نازلي (رمسيس حاليًا)، بسعة ستة آلاف خط وبنظام البطارية المشتركة، وكانت البداية بـ3000 خط، وفي 25 مايو 1927، افتتحت “دار التليفونات الجديدة” رسميًا، ليعرف المبنى لاحقًا باسم “سنترال رمسيس”، ويستكمل النموذج ذاته في الإسكندرية عام 1928.
هل مبنى سنترال رمسيس أثري؟
وكون المبنى لم يبلغ من العمر 100 عام (98 عامًا فقط)، فلم يدرج حتى الآن ضمن قوائم المباني الأثرية، وبالتالي لا يخضع لحماية قانون الآثار، ولا يدخل ضمن اختصاص وزارة السياحة والآثار أو المجلس الأعلى للآثار، وفقًا لما ذكره كبير الأثريين بوزارة السياحة والآثار، مجدي شاكر.
شاكر أضاف لـ”تليجراف مصر”، أن تسجيل أي مبنى كأثر لا يعتمد فقط على عمره الزمني، بل على معايير محددة، من أبرزها مرور مئة عام على بنائه، وتوافر عناصر معمارية وزخرفية مميزة، ومواد بناء أصلية تعكس طابعه التاريخي أو الفني، مشيرًا إلى أن تسجيل المباني لا يعني بالضرورة وقف استخدامها أو تحويلها لمتاحف.
من الحساب اليدوي إلى الرقمنة
ما يعزز مكانة المبنى ليس فقط عمره، بل الدور الرائد الذي أداه في تطوير البنية التحتية للاتصالات في مصر، ففي عام 1931، دُمجت السنترالات الثلاثة الكبرى بالقاهرة (المدينة – البستان – العتبة) في سنترال أوتوماتيكي واحد بسعة 20 ألف خط.
وعام 1933، شهد إدخال نظام المحاسبة على المكالمات المحلية، حيث خُصص لكل مشترك 2000 مكالمة سنويًا ضمن الاشتراك، وما زاد عليها كان يحاسب بثلاثة مليمات للمكالمة، قبل أن يرتفع لاحقًا إلى 15 مليمًا، ويزيد الاشتراك السنوي من 8 إلى 12 جنيها.
وفي عام 1947، أُدخل النظام الكهروميكانيكي في سنترال رمسيس، وهو ما مثل نقلة كبرى في أنظمة التشغيل، وصولًا إلى استخدام نظام “القطبان المتقاطعة”، ثم السنترالات الإلكترونية، وأخيرًا الرقمية.
وفي 1990، بدأت مصر في إنتاج السنترالات الإلكترونية الرقمية من خلال مصنع بمدينة 6 أكتوبر، بشراكة بين الشركة المصرية للاتصالات، ومصنع المعدات التليفونية، وشركة سيمنز الألمانية، بالتوازي مع إطلاق الشبكة القومية لنقل المعلومات.
بوابة مصر إلى العالم
لم تكن وظائف سنترال رمسيس محلية فقط، ففي عام 1928، تعاقدت الحكومة مع شركة “ماركوني” لتركيب أول محطة إرسال واستقبال هوائي دولية، جرى تشغيلها فعليًا عام 1930 من داخل سنترال رمسيس بنظام “الروتاري”.
وبعدها بعامين، تم استبدال الكابلات الأرضية بين القاهرة والإسكندرية بخطوط هوائية، ممهّدة الطريق لأول مكالمة دولية بين مصر وإنجلترا.
واستمرت رحلة التطوير حتى تأسيس “هيئة الاتصالات السلكية واللاسلكية” عام 1957، التي أصبحت الكيان الرسمي المسؤول عن خدمات الاتصالات، مستكملة مسار مصلحة التليفونات والتلغراف.
قلب الشبكة.. مكونات سنترال رمسيس
يربط سنترال رمسيس بين شبكة القاهرة الكبرى وبقية أقاليم الجمهورية، حيث تمر به نحو 40% من حركة الاتصالات المحلية والدولية، سواء عبر الخطوط الأرضية التقليدية أو شبكات الألياف الضوئية الحديثة، وفقًا للبيانات الحكومية.
ويتكون سنترال رمسيس من ثلاثة مباني، أقدمها “الديوان”، يليه “الأوتو”، ورغم أن النيران طالت المبنى الحديث، فإن الأنظار اتجهت فورًا إلى المباني التاريخية، وخصوصًا مبنى الديوان، الذي تفصله سنتان فقط عن بلوغ قرنٍ كامل من العمر، وهو الحد الأدنى المطلوب لتسجيل أي مبنى كأثر وفق القوانين المصرية.
المبنى الحديث تم إنشاؤه خلال السبعينيات في الموقع نفسه، ليكون امتدادًا حديثًا للبنية التحتية الهاتفية في العاصمة، وصُمم المبنى ليستوعب أكثر من 400 ألف خط أرضي، ما جعله وقتها واحدًا من أكبر السنترالات في الشرق الأوسط.
ويتألف المبنى من 13 طابقًا تضم وظائف إدارية وفنية، ويحتوي على محطات كهرباء داخلية ومولدات طوارئ لضمان استمرارية الخدمة في الأزمات، ولا يقتصر دوره على الهاتف الثابت فحسب، بل يمتد إلى كونه نقطة محورية في منظومة التحويلات الرقمية والدوائر الدولية، حيث يحتضن العديد من المقاسم الرقمية الرئيسية المستخدمة في تمرير المكالمات وربطها بالشبكات العالمية.
منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى أوائل الألفينات، أدى سنترال رمسيس دورًا محوريًا في ربط القاهرة بالشبكات المحلية والدولية، إذ كانت تمر من خلاله معظم المكالمات الصادرة والواردة خارج البلاد، بفضل احتوائه على المعدات الدولية للربط الهاتفي.
ومع دخول الإنترنت إلى المنازل في تسعينيات القرن الماضي، ساهم السنترال في توسعة خدمات الهاتف الثابت والبيانات، ليصبح ركيزة أساسية في الشبكة الرقمية المصرية.
وخلال العقدين الأخيرين، خضع السنترال لعدة مراحل من التحديث والتطوير التقني، ليتماشى مع متطلبات التحول الرقمي ونمو خدمات الإنترنت، محافظًا على موقعه كنقطة ارتكاز استراتيجية في شبكة الشركة المصرية للاتصالات.
ويحتوي على واحدة من أكبر غرف الربط البيني في مصر، التي تستخدمها شركات الاتصالات الأخرى، مثل “فودافون”، و”أورنج”، و”إي آند”، لتمرير البيانات عبر الشبكة الوطنية أو للخروج منها إلى الشبكات الدولية، كما تمر عبره كوابل ألياف ضوئية إقليمية ودولية تعد بمثابة شرايين الإنترنت في البلاد، ما يضفي عليه أهمية استراتيجية قصوى في استقرار الخدمة وتأمينها.
أما على صعيد التحول الرقمي، أصبح السنترال موطنًا لوحدات استضافة البيانات التي تخدم خدمات الحوسبة السحابية والتخزين المؤسسي، ومع تصاعد وتيرة الرقمنة في المؤسسات الحكومية والخاصة، تزداد التوقعات بتحويل سنترال رمسيس تدريجيًا إلى مركز بيانات متقدم (Data Center) يخدم نطاقًا أوسع من خدمات الدولة الإلكترونية.
“سنترال رمسيس” في السينما
مكانة سنترال رمسيس في الذاكرة الجمعية لم تقتصر على واقع الخدمات، بل امتدت إلى الخيال الدرامي، ففي فيلم اللعب مع الكبار (1991)، لعب محمود الجندي دور موظف سنترال يتصنت على مكالمات كبار المسؤولين، فيبلغ صديقه عادل إمام بالمعلومات، ليخوض الأخير رحلة فضح الفساد.
وفي كتابة الكوميديا والغناء في الفيلم المصري، رأي الناقد محمود قاسم، أن سنترال رمسيس لم يكن مجرد موقع تصوير، بل شخصية درامية ذات دلالة، حيث أصبح العامل داخله “شاهدًا على ما يدور في الخفاء، ومحاربًا للفساد من موقعه الصامت”.
جغرافيا الزحام والمصالح
يقع سنترال رمسيس في قلب منطقة تعج بالمؤسسات الحيوية، ووفقًا لكتاب القاهرة للمؤرخ محمد رياض، فإن شارع الجلاء (الموازي لشارع رمسيس) هو الممر الوحيد الذي تنساب فيه الحركة جنوبًا من محطة باب الحديد إلى ميدان التحرير.
ووصف رياض المنطقة المحيطة بأنها “حكر على المصالح العامة”، حيث تتجاور جهات خدمية كالشهر العقاري، والمحاكم، والبنوك، والمستشفيات، ومقرات الصحف الكبرى، مثل مباني الأهرام وأخبار اليوم، إلى جانب مبانٍ حكومية ومساكن شعبية.
أما الواجهة الشرقية، فتطل عليها مصلحة الكيمياء، جمعية الإسعاف، نقابة المهندسين، وبالطبع “سنترال رمسيس”، وأشار الكاتب إلى أن شارعي رمسيس والجلاء كانا في الأصل مسارين لترعتين متجاورتين، ردمتا في نهاية القرن التاسع عشر، في إطار مشاريع تجفيف الخليج المصري، الذي كان يشق القاهرة من فم الخليج حتى غمرة.
بين الماضي والمستقبل
اليوم، ما يثير الاهتمام ليس فقط تاريخ سنترال رمسيس، بل مستقبله، فالمبنى الذي شهد أولى المكالمات الدولية، وتحول من الماجنيتو إلى الرقمي، واحتضن ملايين الأصوات على مدار عقود، مهدد الآن بفقدان مكانته العمرانية بعد الحريق.
المصدر: تيليجراف مصر
تعليقات